يُعامل التاريخ على يد المؤرخين المحترفين كسلسلة من الأحداث المترابطة منطقياً، وغالباً ما تتحوّل معالجات كهذه إلى ما يشبه الحتميات التاريخية لدى آخرين. بيد أن ما يغيب عن التاريخ باعتباره سلسلة من الأحداث المترابطة منطقياً يتمثل في استبعاد الغرائبي، واللامعقول، والاستثنائي، باعتبار أن مكان هذه الأشياء كلها الهامش لا المتن.
بيد أن هذا الإقصاء، وإن كان ممكناً في أزمنة مضت، لم يعد ممكناً بعد الانقلاب في مناهج العلوم الاجتماعية والإنسانية بداية من النصف الثاني من القرن العشرين. ومن نتائج هذا الانقلاب أن التاريخ نفسه، باعتباره سلسلة من الأحداث الموّثقة والمترابطة منطقياً، أصبح أمراً يصعب التحقق منه، استناداً إلى فرضية مفادها أن الحقيقة التاريخية إن لم تكن مستحيلة، فهي متعددة الأوجه والتأويلات.
لذا، انقسم علم التاريخ، الذي اقتصر في أزمنة مضت على سير الحكّام والفاتحين، إلى تواريخ مختلفة لهذه الحادثة، أو الحقبة، أو تلك. يمكن أن نفهم تاريخ الحرب العالمية الثانية، مثلاً، بطريقة جديدة تماماً، إذا كتبنا تاريخ النساء، أو الأطفال، أو عمّال النظافة، أو الحانات، أو اللصوص، أو الأقليات، في الفترة نفسها.
وغالباً ما يقوم الأدب، وعلومه، بسد الفراغ الناجم عن وجود مناطق رمادية، في هذه الحادثة التاريخية أو تلك. وهذا أمر يقبل التحقيق استناداً إلى فرضية بسيطة لكنها جديدة تماماً في مناهج العلوم الاجتماعية والإنسانية، ومفادها أن تاريخ هذه الحادثة أو تلك قد يكون أشياءً كثيرة في وقت واحد، لكنه في نهاية الأمر نص، وعمل من أعمال السرد، يتجلى في اللغة وبها، وبالتالي يصدق عليه ما يصدق على غيره من النصوص السردية، بقطع النظر عن المضمون.
وقد أسهمت هذه الفرضية، أكثر من أي شيء آخر، في توسيع نطاق المعالجة التاريخية، إذ فتحت علوماً مختلفة ومستقلة على بعضها. وبالتالي قلّصت مساحة اليقين، بقدر ما أسهمت في توسيع نطاق المعرفة. وهذه سمة من سمات الجهد المعرفي في زمن ما بعد الحداثة.
على أية حال، وطالما نحن في سياق تحوّلات تاريخية، من عيار ثقيل، يعيشها العرب منذ مطلع العام الماضي، وما تزال مستمرّة حتى يوم الناس هذا، فإن هذا الكلام عن التاريخ يتم وفي الذهن تلك التحوّلات.
ما الذي حدث ويحدث؟
ولا اقصد، هنا، التشخيص والتأويل، بل التساؤل عن مكان الغرائبي، واللامعقول، والاستثنائي في كل ما يحدث وما يحدث، وعمّا إذا كانت لدينا القدرة، بالفعل، على التقاط الغرائبي، واللامعقول، والاستثنائي، والحيلولة دون إزاحته من المتن الهامش. لن تتمكن ثقافة ما من إعادة النظر وتحرير العلاقة بين الهامش والمتن من سلطة المألوف، والسائد، ومن سلطة النخب المُهيمنة في الحقلين السياسي والاجتماعي، قبل تفكيك العلاقة بين المعرفة والسلطة. وهذا لن يحدث في وقت قريب.
على أية حال، من اللافت للنظر في ما حدث ويحدث البرنامج الوثائقي عن أيام بن علي الأخيرة قبل الفرار من قرطاج. قبل فراره بيوم واحد، استدعت زوجته امرأة تمارس الرقية، على اعتبار أن عيناً قد أصابته.
وفي مصر، كما جاء في مقابلة مع صحيفة أجنبية، اعترف أحد المتنفذين في أجهزة الإعلام المصرية، أن عائلة مبارك كانت تنتظر معجزة من السماء، على اعتبار أن اسم مصر ورد في النص القرآني خمس مرّات، بينما لم تذكر مكة أكثر من مرّتين. هذا ما جاء في المقابلة، وثمة مشاهد درامية وردت على لسان الشخص نفسه حول سوزان مبارك، والحالة الهستيرية التي أصابتها عندما أدركت بأنها ستغادر القصر الرئاسي إلى الأبد.
أما في ليبيا، فقد روى أحد المقرّبين كيف أنفق القذافي أيامه الأخيرة بعد فراره من طرابلس في القراءة وإعداد الشاي. ثمة ما يشبه هذا الأمر في كلام علاء بشير عن أيام صدّام الأخيرة، كانت الحرب على الأبواب، وصدّام منهمك في كتابة روايته الأخيرة، بينما بنات العائلة الحاكمة يتسابقن على الذهاب إلى عيادة الجراحة التجميلية.
نحن لا نعرف ماذا يفعل بشّار الأسد في خريف النظام الذي ورثه عن أبيه، ونرجو ألا يطول الوقت قبل أن نعرف، لكن طريقته في الكلام والسفسطة ولغته الجسدية تفتح باباً مدهشاً للتأويل.
كل هذه الأشياء تدخل في باب الغرائبي، واللامعقول، والاستثنائي، لكن تحليلها يمكننا من إضاءة جوانب إضافية تُسهم في تعميق المعرفة بالنظم والنخب السياسية التي حكمت وما تزال في مناطق مختلفة من بلاد العرب. والواقع أن الأمر لا يقتصر على تعميق المعرفة بتلك النظم والنخب وحسب، بل يتعداه إلى تعميق المعرفة بمعنى ومبنى السلطة، أيضا.
تبقى مسألة أكيدة، الغرائبي، واللامعقول، والاستثنائي، ليس حكراً على بلاد العرب دون غيرهم. ففي عهد آخر القياصرة الروس، صعد نجم دجّال اسمه راسبوتين، احكم قبضته على العائلة المالكة، وتحكّم بهذا القدر أو ذاك في مصير النظام. جورج بوش الابن كان يسمع رسائل من السماء، وكانت لديه قناعة بأن العناية الإلهية أرسلته لغرض ما. في حالة راسبوتين وقعت مأساة، وفي حالة بوش الابن توفرت كل عناصر الملهاة. كلتاهما وجه لعملة واحدة.
المهم كلما سألنا ما الذي حدث ويحدث، يجب ألا تغيب عن أذهاننا ضرورة البحث عن الغرائبي واللامعقول والاستثنائي. في أميركا اللاتينية نجم عن سؤال كهذا أدب من طراز رفيع. سؤال يمتد من فترة الفتح الأسباني وحتى ظهور الدكتاتوريات الحديثة. وفي بلادنا يمكن أن يحدث هذا، وعلاوة عليه يمكن أن نزداد معرفة بمعنى السياسة والسلطة، إذا بحثنا عن نقطة بعيدة في الماضي، وعدنا إلى زمن الجمهوريات الوراثية. فلا شيء يفنى أو يُخلق من عدم.
[عن موقع "الحوار المتمدن"]